غياب "ثقافة التفاوض" التي تبنى أساسا على مباراة "اكسب اكسب" أو "المحصلة ليست صفرا" تعتبر من أسباب شيوع المباراة الصفرية... والافتراض أنه إذا ما توافرت وشاعت صيغ المباريات غير الصفرية وهي المباريات التفاوضية الإيجابية بصفة عامة لأدرك الجميع أن الناتج في النهاية وعلى المدى البعيد إيجابي للأطراف كلها، وهذا هو الدافع إلى الدعوة بأن نتعاون جميعا على تأصيل أسس ومنطلقات وديناميات ثقافة التفاوض. وفيما يلي موجز لأهم الأسس العامة التي ينبغي تعرفها إذا كنا بصدد تعمق فكرة "ثقافة التفاوض":
أولا: التركيز على حل المشاكل وتجنب التعرض للأشخاص بأي نوع من التشويه... أي تحري الموضوعية وتجنب الشخصانية في تناول المسائل.. وامتداح العمل الحسن بغض النظر عن الشخص الذي قام به، والاهتمام بالآخرين و صالحهم وأعمالهم.ثانيا: تنمية حاسة الاستماع الجيد للآخرين، وهذا يتطلب تجنب هيمنة الافتراضات المسبقة التي نرسمها في أذهاننا عن البعض، بل ننتظر ونتأكد مما نسمعه ونستوضح أي غموض حتى نتأكد قبل إصدار أي حكم أو التفوه بأي كلام.. وأمر حسن الاستماع يتخطى الصمت وهز الرأس، ولكنه يستلزم قدرات خاصة باستيعاب ما يقال وتخزينه في الذاكرة بصورة منظمة لاسترجاعه في الوقت المناسب في الحوار، وكذلك مقاومة القابلية للاستهواء، أي قابلية تصديق أفكارالآخرين بتسرع دون دليل أو برهان قوي.ثالثا: تعرف طبيعة ملامح حوارية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر:أ- أصول إقامة الحجج، وكيف نستخدمها إيجابيا لصالح التفاوض وليس لصالح "هزيمة الخصم أساسا" وترك هذا الإحساس لديه، وكذلك أهمية تأمل أساليب إقامة الحجج المختلفة في الثقافة الواحدة، وعبرالثقافات، وكيفية التعامل مع الأنماط التي تجسد التسلط في الحوار.ب- تعرف وظائف "الصمت"في الحوار التفاوضي، فهذا من الأمور المعقدة التي تحتاج إلى إبراز الدراسات الخاصة بها. فكم من حالة من حالات سوء التفاهم قد نشأت بسبب عدم الإلمام بوظائف وديناميات الصمت، سواء في الحوارات داخل الثقافة الواحدة أو عبر الثقافات.ج- تعرف الاستخدامات الإيجابية لعامل الوقت وتعرف التعامل الإيجابي من الآخرين الذين قد يوظفون "الوقت" في غير صالح العملية التفاوضية سواء في الأداء اللفظي أو الكتابة.د- تجنب الأسلوب غير المباشر في الأمور التي تحتاج إلى توضيح دقيق، وتجنب الغموض خاصة في اللحظات الحاسمة للتفاعل والإدراك الجيد للاختلافات الثقافية والفردية في توظيف الأساليب غير المباشرة في الحوار، وعلى وجه الدقة ميكانزمات الغموض.رابعا: تجنب أساليب المغالطات، والدفاع عن الأوضاع الخاطئة، أو عدم الاعتراف بالخطأ إذا وقعنا فيه.خامسا: تجنب التقوقع داخل الذات، والخوف من المواجهة الإيجابية مع الآخرين.سادسا: انتهاج مبدأ "تحقيق الممكن" وتجنب "السقوط في الحب النظري للكمال" إلى الحد الذي يجعل المتحاور يترك فرصة تحقيق الأهداف العادية والممكنة، وتجعله يسقط في براثن "التفكير السحري" ويعتقد أن شيئا واحدا سيحل كل مشاكل العالم دون النظر لتعقيدات الأمور وحيثيات التطبيق المنطقية، دون استنفاد كل السبل لتحقيق "الممكن".سابعا: تجنب التفكير الأحادي لأنه يجعل المتحاور سجين فكرة واحدة، دون النظر لمنظومة الأفكار الأخرى خاصة الجديد منها، فهذا التفكير يحد من ظهور البدائل المتاحة للمتحاور، ويجعل هذا المتحاور أو ذاك يغلق على نفسه الباب أمام مجالات وبدائل وآفاق عديدة.ثامنا: أهمية تحديد النقاط التي يمكن التفاوض بشأنها والتي تؤسس الأرضية المشتركة مع الآخرين بقدر الإمكان. وهنا يتضح إمكان التفاوض على عدة نقاط من خلال نقطة واحدة تكون محورية وهنا نسأل أسئلة مثل:
- هل هذه النقطة مهمة?
- وما مدى أهميتها?
- وهل يمكن أولا التفاوض بخصوصها أم لا?
- وما أنسب الوسائل للاستعداد للطرف الآخر أو للخصم إذا أثارها?
تاسعا: أهمية تحديد أولويات التفاوض، وهنا علينا تحديد أهمية ووزن كل نقطة ومن ثم تحديد أولويات التحدث بشأنها، وتصديرها على قائمة موضوعات النقاش، أو تهميشها، أو السكوت عنها. وهل نبدأ بالمشكلات الرئيسية أو الفرعية، والأمثلة المتمخضة عن عدم التوظيف السليم لهذه النقاط في حوارات واقعنا الثقافي كثيرة ومتعددة.عاشرا: أهمية تقييم الموقف التفاوضي دائما لتعرف المستجدات التي حدثت أثناء العملية التفاوضية، والتكيف مع هذه المستجدات بالطريقة التي تجعلك تحقق أهدافك ومراعاة أهداف الطرف الآخر قدر الإمكان، أي تجنب الأجندة الإستاتيكية الثابتة خاصة في الأمور الفرعية.حادي عشر: تجنب سوء الظن بالآخرين، والوقوع في براثن التفكير التآمري والتصنيف المتعسف وتأطير الآخرين بجهالة ودون ترو مطلوب، والأخذ بتلابيب الأمور، والتصرف بصيغة فاعلة تضرب التآمر إن وجد بالفعل، و بهدوء دون إحباط وشكوى ويأس.ثاني عشر: تعرف وظائف وآليات الأسئلة بهدف الاستفادة من دورها في إنجاح العملية التفاوضية; فإن استخدامنا للأسئلة في عملية التفاوض قد يكون لهدف أو لعدة أهداف كثيرة ومعقدة.ثالث عشر: مراعاة أسلوب وطريقة الحوار مع الآخرين والملائمة للسياق، فإن الطريقة التي تتحدث بها قد يكون لها قيمة أكثر من الكلام الذي تقوله من حيث حركات اليد وتعبيرات الوجه، ومستوى ارتفاع الصوت وسرعة أو بطء تدفق الكلمات والتعبيرات.رابع عشر: مراعاة كم المعلومات التي يلقى بها على ساحة الحوار، ولا بد أن نتحلى بصفة وهي ألا نقول أكثرمما يتطلبه الحوار ولا أقل، بل علينا أن نزن الأمور بالأسلوب الذي يتيح النجاح للعملية التفاوضية. و من المهم كذلك الإيفاء بما نعد به أي أن يكون للكلام قوته أو معقوليته على ساحة التنفيذ والالتزام.خامس عشر: أهمية توثيق أحداث التفاوض في الجولات المختلفة ومقارنتها بالأهداف عند بدء الدخول للتفاوض، وعلينا أن نتذكر دائما أن أمر التفاوض من الأمور المستمرة مدى الحياة، وأننا نستطيع أن نتطور دائما وأن نطور من أساليبنا بعد التجارب المختلفة، وهذه خاصية يتحلى بها كل من ترسخت في عقليته "ثقافة التفاوض".
المصدر: كتاب مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي و السياسيتأليف: د. حسن محمد وجيهسلسلة عالم المعرفة - العدد 190 - أكتوبر 1994 الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة و الفنون و اﻵداب - الكويت الصفحات 16-19